الأَمثلة:
(1) قال أَبو
إسحاق الغَزِّيُّ :[1]
لَوْلا أَبو الطَيّبِ الكِنْدِي ما امْتَلأتْ
مَسَامِعُ النَّاس مِنْ مَدْحِ
ابْنِ حَمْدَان
(2) وقال
أَبو الطَّيِّبِ:
لاَ أشرَئِبُّ إلى ما لَم يَفُتْ طَمَعاً ولا أبِيتُ على ما فاتَ حَسـْرَاناَ
[2]
(3) وقال أبو
العَتَاهِيَةِ:
إِنَّ البَخِيلَ و إِنْ أفاد غِنًى لَتُـرَى عَلَـيْهِ مَخـَايلُ
الْفَقْر [3]
(4) وقال
بَعْضُ الحكماء لابْنِهِ:
يَا بُنَي
تَعَلم حُسْنَ الاستماعِ كما تَتَعَلَّمُ حُسْنَ الحديث.
(5) وأَوصى
عبدُ الله بنُ عباس [4] رَجُلاً فقال:
لا تتكلم بما
لا يعنِيك، وَدَعِ الكَلاَمَ في كَثيرٍ ممَّا يَعْنيك حَتَّى تَجِدَ لَهُ
مَوْضِعاً.
(6)
وقال أَبو الطيب:
لا تَلْقَ دَهْرَكَ إِلاَ غَيْرَ مُكْتَرثِ
ما دَامَ يَصْحَبُ فِيهِ
رُوحَكَ البَدَنُ [5]
البحث:
يخبرنا أَبو إِسحاق
الغزِّيُّ بأَن أَبا الطيب المتنبي هو الذي نشر فضائل سيف الدولة بن حَمْدَانَ
وأَذاعها بين الناس. ويقول: لولا أَبو الطيب ما ذاعت شهرة هذا الأمير ولا عَرَفَ الناس من شمائله كل الذي عرفوه. و
هذا قول يحتمل أَن يكون الغزي صادقاً فيه كما يحتمل أن يكون كاذباً، فهو صادق : إِن
كان قوله مطابقاً للواقع، كاذب إن كان قوله غير مطابق للواقع.
و المتنبي في المثال الثاني
يخبر عن نفسه بأنه قانعٌ راض بحالهِ التي هو فيها
فليس من عادته أَن يتَطَلع مسْتَشرفاً إلى ما هو آت، وليس من دأبهِ أن
يَندمَ على ما فات، و من المحتمل أن يكون كاذباً غير صادق.
كذلك يجوز أن يكون أبو
العتَاهِيَةِ في المثال الثالث صادقاً فيما قال و ادعى، ويجوز أن يكون غير صادق:
انظر بعد ذلك إلى المثال
الرابع تجد قائله ينادي ولَده ويأمره أن يتعلم حسْن الحديث، وذلك كلام لا يَصِح أن
يقال لقائله إنه صادق فيه أو كاذب؛ لأنه لا يُعْلمُنا بحصول الشيء أو عدَم حصوله،
وإنما هو ينادي ويأمر.
كذلك لا يصح أن يَتَّصِفَ
عَبدُ الله بنُ عباس في المثال الخامس، والمتنبي في المثال السادس بالصدق أو الكذب،
لان كلاً منهما لا يخبر عن حصول شيء أو عَدَمِ حصوله، ولو أنك تتبعت جميع الكلام
لوجدته لا يخرج عن هذين النوعين، ويُسَمىَّ النوعُ الأول خبراً و النوع الثاني
إنشاءً.
انظر بعد ذلك إلى الجمل في
الأمثلة السابقة أو في غيرها تجدْ كل جملة مكونَةً من ركْنَين أساسيين هما المحكوم
عليه والمحكوم به، ويسمى الأول مسنداً إليه والثاني مسنداً أما ما عداهما فهو "
قيد" في الجملة وليس ركنا أساسيًّا.
القواعد:
(28) الكلامُ
قِسمان: خَبَرٌ و إنْشاءٌ:
(أ)
فالخَبَرُ ما يَصِحُّ أنْ يُقَالَ لِقَائِلِه إنهُ صَادقٌ فِيهِ أو كاذب، فإنْ كان
الكلامُ مُطَابقاً للواقع كان قائِلهُ صَادِقاً، وَإنْ كان غَيرَ مُطَابقٍ لَهُ كان
قائِلُهُ كاذباً .[6]
(ب) والإنشاء
ما لا يصح أَنْ يُقَالَ لِقَائلِه إنهُ صَادِق فِيهِ أَو كاذِب.
(29) لكل جُملةٍ مِنْ جُمَل
الخبَر والإنشاءِ رُكْنَان: محكوم عليه، ومَحكوم بهِ، وَيُسمى الأوَّلُ مسنَدًا
إِليه، والثاني [7]مسنداً [8]، وَما زَادَ عَلَى ذلكَ غَيْر المُضَافِ إلَيهِ
والصِّلَةِ فَهُوَ قَيْدٌ[9].
نَمُوذَج
لبيان أنواع
الجمل و تعيين المسند إليه والمسند في كل جملة رئيسية [10] :
(1) قال عبد الحميد الكاتب [11] يوصى أهل
صِناعته بمحاسن الآداب تَنَافَسُوا [12]
يَا مَعَاشرَ الكُتابِ في صُنوف الآداب، تفهموا
في الدين، وابْدَءوا بعِلْم كِتَابِ الله عَز وَجَل ثمَ العَرَبِيةِ؛ فإنها
نَفَاقُ ألسِنَتِكم [13]
ثُم أجِيدوا الخَط فإنَّهُ
حِليةُ كتبكم، وارووا الأشعارَ واعرفوا غَرِيبَها ومعَانِيها وأيًامَ العَرَب
والعَجَم وأحاديثَها وسيرَها، فإن ذلك مُعِين لَكم عَلَى ما تَسمُو إليه
هِمَمُكُم.
(2) قال أبو
نُواسِ:
الرزْقُ والحِرمانُ مَجرَاهُما بمَا قَضَى الله ومَا قدَّرَا
فاصْبِرْ إذا الدهر نَبَا نَبْوَةً فَجُنَةُ الحازِم أنْ يَصْبرا [14]
تمرينات
(1) ميز
الجمل الخبرية من الجمل الإِنشائية، وعيًن المسند إِليه والمسند فيما يأتي.
(أ) مما يُنسَبُ لعلي بن
آبي طالب رَضيَ الله عنه في رسالة إلى الحارث الهَمذاني [15]: "تمسَّك بِحبل القرآن واستنْصِحه وأحِلً
حلاَلهُ و حرم حرَامه واعْتَبر بِمَا
مَضَى من الدنيا ما بَقي منها [16] فإِن بعضَها يشْبِهُ بَعضًا، وأخِرُها لاحقٌ
بأوَلها، وكلها حائلٌ مفارقٌ [17]، عظَم اسْمَ اللهِ أن تَذْكُرَهُ إلا على حقَ
[18]".
(2) مما
يُنْسَبُ إليه أيضا:
"تَوَقوا
البَرْدَ في أولهِ، و تَلَقَّوْه في آخِره فإنه يَفْعَلُ بالأَبدانِ كَفِعله في
الأشجار، أوًلُهُ يحْرِقُ، وآخِرُهُ يُورق".
(3) (أ)
وكتَبَ بعض البلغاء في الاستعطاف:
"لذتُ بعفْوكَ، واسْتَجَرْتُ بصَفْحِكَ،
فأذقني حَلاَوةَ الرضا، وأنْسِني مَرَارةَ السخْط فيما مَضَى".
(ب) تفهم الأبيات الآتية، وميز فيها الجملَ
الخبريةَ من الجمل الإنشائية وعين المسند إليه والمسند في كل جملة:
(4) (أ) قال
صاحب العِقْد الفريد [19] يصِف الدنيا:
ألا إنما الدنْيا نَضـَارةُ أيـكَةٍ إذَا اخْضَرَّ منها جانِب جَفَّ جانِبُ [20]
هيَ الدارُ مَا الآمال إِلا فَجَائع علـيهـا ولا اللـذات إلا مصـائب
فَلاَ تَكْتَحِلْ عيْنَاكَ فيها بِعـَبْرَة
عَلى ذَاهب منْهـَا فإِنًـكَ ذَاهـِب
[21]
(ب) وقال ابن
المعتز:
لَيْسَ الكرِيمُ الذي يُعْطِى عَطيَّتَه عَـن الثنَاءِ وإِنْ أغْـلى به الثَّـمَنَا
بل الكَرِيم الذي يُعْطِى عَـطِيًتَه لِغَيْر شيء سِوى استحسانِهِ الحَسَنَا
لا يَسْتَثِيبُ بِبَذْلِ العُرْفِ مَحْمَدَة
ولاَ يَمُـنُّ إِذا مـا قلـَّدَ
المِنـَنَا [22]
(جـ) اُنثر البيتين الآتيين نثرًا فصيحاً، ثم
عَين الجمل الخبرية والجمل الإنشائية التي تأتى بها في نثرك:
ولاَ تَصطَنِع إِلا الكِرَامَ فإنهم يُجَازُونَ بالنَّعماءِ مَنْ كان مُنْعِما
[23]
وَمَنْ يَتخِذ عند اللئامِ صَنيعة تجـده عَلى آثـارها مُتَنَــدِّما [24]
(5) (أ) صف
حياة القَرويين في أسْلوب خبري لا يتخلله شيء من الجمل الإنشائية.
(ب) اكتب إلى أرمَدَ ترجو له الشفاء، ونصحه
بما يساعده على السلامة من دائه يضَمن رسالتك إليه طائفةً من الجمل الإنشائية.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]شاعر
مجيد، أتي في قصائده الطوال بكل بديع، ولد بغزة، وهي بلدة بالشام وتوفي سنة 524هـ
[2]اشرأب إلى
الشيء: تطلع إليه
[3]أفاد غني
بمعنى استفاده، و المخيل : العلامات يقول:إن البخيل تظهر عليه دائما امارات الفقر
وعلاماته،وإن كان غنياً كثير المال
[4]هو عبد
الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، أحد أكابر الصحابة في العلم سمي
بالحبر لسعة علمه، ومات بالطائف سنة 68هـ.
[5]يقول: لا
تبال الزمان ومصروفه ما دمت حياً ؛ فإن
الشدة والرخاء يتعاقبان فيه على الحي، فلا بأس مع الحياة.
[6]الخبر إما جملة اسمية
وإما جملة فملية، فالجملة الاسمية تفيد بأصل وضعها ثبوت شي. لشي.ليس غير، فإذا قلت:
الهواء. معتدل لم يفهم من ذلك سوى ثبوت الاعتدال للهوى. من غير نظر إلى حدوث أو
استمرار،و قد يكتنفها من القرائن ما
يخرجها عن أصل وضعها فتفيد الدوام والاستمرار كأن يكون الكلام في معرض المدح أو
الذم، ومن ذلك قوله تعالى: {وإنك لعل خلق عظيم}.
أما الجملة الفعلية فموضوعة
لإفادة الحدث في زمن معين مع الاختصار ، فإذا قلت: "أمطرت السماء" لم يستفد السامع من ذلك إلا
حدوث الإمطار في الزمن الماضي، و قد تفيد الاستمرار التجددي بالقرائن كما في قول
المتنبي:
وليس لها يوماً عن المجد شاغل
تدبر شرق
الأرض والغرب كفه
فإن المدح
قرينة دالة على أن التدبير أمر مستمر متجدد آنا فآناً.
والجملة الاسمية لا تفيد
الثبوت بأصل وضعها ولا الاستمرار بالقرائن، إلا إذا كان خبرها مفردا أو جملة اسمية،
أما إذا كان خبرها جملة فعلية فإنها تفيد التجدد.
[7]مواضع
المسند إليه للفاعل ونائبه و المبتدأ الذي له خبر وما أصله المبتدأ كاسم كان
وأخواتها
[8] مواضع المسند هي الفعل
التام، والمبتدأ المكتفى بمرفوعه، و خبر المبتدأ، وما أصله خبر المبتدأ كخبر كان
وأخواتها، واسم الفعل، و المصدر النائب عن فعل الأمر.
[9] القيود
هي أدوات الشرط والنفي،و المفاعيل والحال والتمييز و التوابع و النواسخ.
[10] تنقسم الجملة عند
علماء المعاني إلى جملة رئيسية وجملة غير رئيسية ، والأولى هي المستقلة التي لم تكن
قيدا في غيرها. و الثاني ما كانت قيدا في غيرها وليست مستقلة بنفسها.
[11] هو أبو غالب بن يحي بن
سعد، كان كاتبا مبدعا، و قد برع في إنشاء الرسائل وضرب المثل ببلاغته الكتابة , و
قال الثعالبي: "فتحت الكتابة بعبد الحميد وختمت بابن العميد"، وقد كتب لمروا ن أخر
ملوك بنى أمية وقتل معه سنة 135هـ.
[12]
تنافسوا. تباروا
[13] نفاق
ألسنتكم: رواج كلامكم
[14] نبا
نبوة: أساء إساءة من قولهم نبا السيف إذا لم يعمل في الضريبة،وجنة الحازم: وقايته.
[15]هو الحارث بن عد الله
بن كعب الهمذانى الكوفي، كان راوية لعلي بن أبى طالب رضي الله عنه، وهو من الطبقة
الأولى من التابعين من أهل الكوفة، توفى سنة 70هـ.
[16] اعتبر:
قس، والمعنى قس الباقي بالماضي.
[17] حائل:
متغير.
[18] أي لا
تحلف بالله إلا على حق تعظيما له واجلالا.
[19] هو أحمد بن محمد
القرطبي المشهور بابن عبد ربه، كان عالما أديبا كثير الحفظ ولاطلاع على أخبار
الناس، وقد اشتهر بكتابه العقد الفريد،
توفى سنة328هـ
[20]
النضارة: الحسن والرونق، والأيكة: الشجرة.
[21] العبرة:
الدمعة قبل أن تفيض
[22] يستثيب: يسأل أن يثاب.
والعرف: للمعروف. والمدة: الحمد. ويمن: يمتن بتعداد النعم.و قلد المنن: أولاها.
والمنن: جمع منة وهي النعمة، يقول: إن الكريم هو الذي يبذل المعروف ولا يطلب عليه
حمداً، ويولى الجميل ولا يمتن به.
[23] اصطنع
الكرام: أحسن إليهم، والنعماء والإحسان.
[24]الصنيعة:
اليد والإحسان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق